فصل: ذكر ولاية سعيد بن أسلم السند وقتله:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.تفسير هذه الخطبة:

قوله: أنا ابن جلا، فابن جلا هو الصبح لأنه يجلو الظلمة. وقوله: فاشتدي زيم، هو اسم للحرب، والحطم الذي يحطم كل ما مر به، والوضم ما وقي به اللحم عن الأرض، والعصلبي الشديد، والأعلاط من الإبل التي لا أرسان عليها. وقوله: فعجم عيدانها، أي عضها واختبرها. وقوله: لأعصبنكم عصب السلمة، فالعصب القطع، والسلم شجر من العضاه. وقوله: لا اخلق إلا فريت، فالخلق لتقدير، ويقال: فريت الأديم إذا أصلحته. والسمهى: الباطل، وأصله ما تسميه العامة مخاط الشيطان. والعطاط، بضم لعين، وقيل بفتحها: ضرب من الطير.
فلما كان اليوم الثالث سمع تكبيراً في السوق فخرج حتى جلس على المنبر فقال: يا أهل العراق وأهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق! إني سمعت تكبيراً ليس بالتكبير الذي يراد به وجه الله ولكنه التكبير الذي يراد به الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قصف، يا بني اللكيعة وعبيد العصا وأبناء الأيامى ألا يربع رجل منكم على ظلعة، ويحسن حقن دمه، ويعرف موضع قدمه! فأقسم بالله لأوشك أن أوقع بكم وقعة تكون نكالاً لما قبلها وأدباً لما بعدها.
فقام عمير بن ضابئ الحنظلي التيمي فقال: أصلح الله الأمير، أنا في هذا البعث وأنا شيخ كبير عليل وابني هذا أشب مني. فقال الحجاج: هذا خير لنا من أبيه، ثم قال: ومن أنت؟ قال: أنا عمير بن ضابئ. قال: أسمعت كلامنا بالأمس؟ قال: نعم. قال: ألست الذي غزا عثمان بن عفان؟ قال: بلى. قال: يا عدو الله أفلا إلى عثمان بعثت بدلاً؟ وما حملك على ذلك؟ قال: إنه حبس أبي وكان شيخاً كبيراً. قال: أولست القائل:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكي حلائله

إني لأحسب أن في قتلك صلاح المصرين. وأمر به فضربت رقبته وأنهب ماله.
وقيل: إن عنبسة بن سعيد بن العاص قال للحجاج: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال: هذا أحد قتلة عثمان. فال الحجاج: أي عدو الله! أفلا إلى أمير المؤمنين بعثت بديلاً؟ ثم أمر به فضربت عنقه، وأمر منادياً فنادى: ألا إن عمير بن ضابئ أتى بعد ثلاثة وكان سمع النداء فأمرنا بقتله، ألا إن ذمة الله بريئة ممن لم يأت الليلة من جند المهلب.
فخرج الناس فازدحموا على الجسر، وخرج العرفاء إلى المهلب، وهو برامهر مز، فأخذوا كتبه بالموافاة. فقال المهلب: قدم العراق اليوم رجل ذكر، اليوم قوتل العدو.
فلما قتل الحجاج عميراً لقي إبراهيم بن عامر الأسدي عبد الله بن الزبير فسأله عن الخبر، فقال:
أقول لإبراهيم لما لقيته ** أرى الأمر أضحى منصباً متشعبا

تجهز وأسرع فالحق الجيش لا أرى ** سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا

تخير فإما أن تزور ابن ضابئٍ ** عميراً وإما أن تزور المهلبا

هما خطتا خسفٍ نجاؤك منهما ** ركوبك حولياً من الثلج أشهبا

فحال ولو كانت خراسان دونه ** رآها مكان السوق أو هي أقربا

فكائن ترى من مكره الغزو مسمراً ** تحمم حنو السرج حتى تحنبا

تحمم أي لزمه حتى صار كالحميم. وتحنب: اعوج. والزبير ههنا بفتح الزاي وكسر الباء.
قيل: وكان قدوم الحجاج في شهر رمضان، فوجه الحكم بن أيوب الثقفي على البصرة أميراً وأمره أن يشتد على خالد بن عبد الله، فبلغ خالداً الخبر فخرج عن البصرة فنزل الجلحاء وشيعه أهل البصرة فقسم فيهم ألف ألفٍ.
فكان الحجاج أول من عاقب بالقتل على التخلف عن الوجه الذي يكتب إليه. قال الشعبي: كان الرجل إذا أخل بوجهه الذي يكتب إليه زمن عمر وعثمان وعلي نزعت عمامته ويقام للناس ويشهر أمره، فلما ولي مصعب قال: ما هذا بشيء، وأضاف إليه حلق الرؤوس واللحى، فلما ولي بشر بن مروان زاد فيه فصار يرفع الرجل عن الأرض ويسمر في يديه مسماران في حائط، فربما مات وربما خرق المسمار كفه فسلم، فقال شاعر:
لولا مخافة بشرٍ أو عقوبته ** وان ينوط في كفي مسمار

إذاً لعطلت ثغري ثم زرتكم ** إن المحب لمن يهواه زوار

فلما كان الحجاج قال: هذا لعب، أضرب عنق من يخل مكانه من الثغر.

.ذكر ولاية سعيد بن أسلم السند وقتله:

في هذه السنة استعمل عبد الملك على السند سعيد بن أسلم بن زرعة، فخرج عليه معاوية ومحمد ابنا الحارث العلاقيان فقتلاه وغلبا على البلاد، فأرسل الحجاج مجاعة بن سعر التميمي إلى السند فغلب على ذلك الثغر وغزا وفتح أماكن من قندابيل، ومات مجاعة بعد سنة بمكران فقيل فيه:
ما من مشاهدك التي شاهدتها ** إلا يزيدك ذكرها مجاعا

.ذكر وثوب أهل البصرة بالحجاج:

في هذه السنة خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، فلما قدم البصرة خطبهم بمثل خطبته بالكوفة وتوعد من رآه منهم بعد ثلاثة ولم يلحق بالمهلب، فأتاه شريك بن عمرو اليشكري، وكان به فتق، وكان أعور يضع على عينه قطعةً، فلقب ذا الكرسفة، فقال: أصلح الله الأمير، إن بي فتقاً وقد رآه بشر بن مروان فعذرني، وهذا عطائي مردود في بيت المال فأمر به فضربت عنقه، فلم يبق بالبصرة أحد من عسكر المهلب إلا لحق به. فقال المهلب: لقد أتى العراق رجل ذكر. وتتابع الناس مزدحمين إليه حتى كثر جمعه.
ثم سار الحجاج إلى رستقباذ، وبينها وبين المهلب ثمانية عشر فرسخاً، وإنما أراد أن يشد ظهر المهلب وأصحابه بمكانه، فقام برستقباذ خطيباً حين نزلها فقال: يا أهل المصرين! هذا المكان والله مكانكم شهراً بعد شهر وسنةً بعد سنة حتى يهلك الله عدوكم هؤلاء الخوارج المطلين عليكم.
ثم إنه خطب يوماً فقال: إن الزيادة التي زادكم إياها ابن الزبير إنما هي زيادة مخسرة باطلة من ملحد فاسق منافق ولسنا نجيزها! وكان مصعب قد زاد الناس في العطاء مائة مائة.
فقال عبد الله بن الجارود: إنها ليست بزيادة ابن الزبير إنما هي زيادة أمير المؤمنين عبد الملك قد أنفذها وأجازها على يد أخيه بشر. فقال له الحجاج: ما أنت والكلام لتحسنن حمل رأسك أو لأسلبنك إياه فقال: ولم؟ إني لك لناصح وإن هذا القول من ورائي.
فنزل الحجاج ومكث أشهراً لا يذكر الزيادة ثم أعاد القول فيها، فرد عليه ابن الجارود مثل رده الأول. فقام مصقلة بن كرب العبدي أبو رقبة ابن مصقلة المحدث عنه فقال: إنه ليس للرعة أن ترد على راعيها، وقد سمعنا ما قال الأمير، فسمعاً وطاعةً فيما أحببنا وكرهنا. فقال له عبد الله بن الجارود: يا ابن الجرمقانية! ما أنت وهذا! ومتى كان مثلك يتكلم وينطق في مثل هذا؟ وأتى الوجوه عبد الله بن الجارود فصوبوا رأيه وقوله، وقال الهذيل بن عمران البرجمي وعبد الله بن حكيم بن زياد المجاشعي وغيرهما: نحن معك وأعوانك، إن هذا الرجل غير كافٍ حتى ينقصنا هذه الزيادة، فهلم نبايعك على إخراجه من العراق ثم نكتب إلى عبد الملك نسأله أن يولي علينا غيره، فإن أبى خلعناه، فإنه هائب لنا ما دامت الخوارج. فبايعه الناس سراً وأعطوه المواثيق على الوفاء وأخذ بعضهم على بعضهم العهود.
وبلغ الحجاج ما هم فيه فأحرز بيت المال واحتاط فيه. فلما تم لهم أمرهم أظهروه، وذلك في ربيع الآخر سنة ست وسبعين، وأخرج عبد الله بن الجارود عبد القيس على راياتهم، وخرج الماس معه حتى بقي الحجاج وليس معه إلا خاصته وأهل بيته، فخرجوا قبل الظهر، وقطع ابن الجارود ومن معه الجسر، وكانت خزائن الحجاج والسلاح من ورائه. فأرسل الحجاج أعين، صاحب حمام أعين بالكوفة، إلى ابن الجارود يستدعيه إليه، فقال ابن الجارود: ومن الأمير! لا ولا كرامة لابن أبي رغال! ولكن ليخرج عنا مذموناً مدحوراً وإلا قاتلناه! فقال أعين: فإنه يقول لك أتطيب نفساً بقتلك وقتل أهل بيتك وعشيرتك؟ والذي نفسي بيده لئن لم يأتني لأدعن قومك عامة وأهلك خاصة حديثاً للغابرين. وكان الحجاج قد حمل أعين هذه الرسالة. فقال ابن الجارود: لولا أنك رسول لقتلتك يا ابن الخبيثة! وأمر فوجئ في عنفه وأخرج.
واجتمع الناس لابن الجارود، فأقبل بهم زحفاً نحو الحجاج، وكان رأيهم أن يخرجوه عنهم ولا يقاتلوه، فلما صاروا إليه نهبوه في فسطاطه وأخذوا ما قدروا عليه من متاعه ودوابه، وجاء أهل اليمن فأخذوا امرأته ابنة النعمان بن بشير، وجاءت مضر فأخذوا امرأته الأخرى أم سلمة بنت عبد الرحمن بن عمرو أخي سهيل بن عمرو. فخافه السفهاء، ثم إن القوم انصرفوا عن الحجاج وتركوه، فأتاه قوم من أهل البصرة فصاروا معه خائفين من محاربة الخليفة.
فجعل الغضبان بن القبعثري الشيباني يقول لابن الجارود: تعش بالجدي قبل أن يتغدى بك، أما ترى من قد أتاه منكم؟ ولئن أصبح ليكثرن ناصره ولتضعفن منتكم! فقال: قد قرب المساء ولكنا نعاجله بالغداة.
وكان مع الحجاج عثمان بن قطن وزياد بن عمرو العتكي، وكان زياد على شرطة البصرة، فقال لهما: ما تريان؟ فقال زياد: أن آخذ لك من القوم أماناً وتخرج حتى تلحق بأمير المؤمنين فقد ارفض أكثر الناس عنك ولا أرى لك أن تقاتل بمن معك. فقال عثمان بن قطن الحارثي: لكني لا أرى ذلك، إن أمير المؤمنين قد شركك في أمرك وخلطك بنفسك واستنصحك وسلطك فسرت إلى ابن الزبير، وهو أعظم الناس خطراً، فقتلته، فولاك الله شرف ذلك وسناه، وولاك أمير المؤمنين الحجاز، ثم رفعت فولاك العراقين، فحيث جريت إلى المدى وأصبت الغرض الأقصى تخرج على قعود إلى الشام، والله لئن فعلت لا نلت من عبد الملك مثل الذي أنت فيه من سلطان أبداً وليتضعن شأنك، ولكني أرى أن نمشي بسيوفنا معك فنقاتل حتى نلقى ظفراً أو نموت كراماً. فقال له الحجاج: الرأي ما رأيت. وحفظ هذا لعثمان وحقدها على زياد بن عمرو.
وجاء عامل بن مسمع إلى الحجاج فقال: إني قد أخذت لك أماناً من الناس، فجعل الحجاج يرفع صوته ليسمع الناس ويقول: والله لا أؤمنهم أبداً حتى يأتوا بالهذيل وعبد الله بن حكيم. وأرسل إلى عبيد بن كعب النميري يقول: هلم إلي فامنعني. فقال: قل له إن أتيتني منعتك. فقال: لا ولا كرامة! وبعث إلى محمد بن عمير بن عطارد كذلك، فأجابه مثل الجواب الأول، فقال: لا ناقتي في هذا ولا جملي. وأرسل إلى عبد الله بن حكيم المجاشعي فأجابه كذلك أيضاً.
ومر عبد بن الحصين الحبطي بابن الجارود وابن الهذيل وعبد الله بن حكيم وهم يتناجون، فقال: أشركونا في نجواكم. فقالوا: هيهات أن يدخل في نجوانا أحد من بني الحبط! فغضب وصار إلى الحجاج في مائة رجل، فقال له الحجاج: ما أبالي من تخلف بعدك.
وسعى قتيبة بن مسلم في قومه في يحيى أعصر؟ وقال: لا والله لا ندع قيساً يقتل ولا ينهب ماله، يعني الحجاج، وأقبل إلى الحجاج.
وكان الحجاج قد يئس من الحياة، فلما جاءه هؤلاء اطمأن، ثم جاءه سبرة بن علي الكلابي وسعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي فسلم، فأدناه منه، وأتاه جعفر بن عبد الرحمن بن مخنف الأزدي، وأرسل إليه مسمع بن مالك بن مسمع: إن شئت أتيتك وإن شئت أقمت وثبطت الناس عنك. فقال: أقم وثبط الناس عني.
فلما اجتمع إلى الحجاج جمع يمنع بمثلهم خرج فعبأ أصحابه ولتلاحق الناس به، فلما أصبح إذا حوله نحو ستة آلاف، وقيل غير ذلك. فقال ابن الجارود لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما الرأي؟ قال: تركت الرأي أمس حين قال لك الغضبان تعش بالجدي قبل أن يتغذى بك، وقد ذهب الرأي وبقي الصبر.
فدعا ابن الجارود بدرع فلبسها مقلوبة فتطير. وحرض الحجاج أصحابه وقال: لا يهولنكم ماترون من كثرتهم. وتزاحف القوم وعلى ميمنة الحجاج قتيبة بن مسلم، ويقال عباد بن الحصين، وعلى ميسرته سعيد بن أسلم؛ فحمل ابن الجارود في أصحابه حتى جاز أصحاب الحجاج، فعطف الحجاج عليه، ثم اقتتلوا ساعةً وكاد ابن الجارود يظفر فأتاه سهم غرب فأصابه فوقع ميتاً. ونادى منادي الحجاج بأمان الناس إلا الهذيل وعبد الله بن حكيم، وأمر أن لا يتبع المنهزمون، وقال: الاتباع من سوء الغلبة. فانهزم عبيد الله بن زياد بن ظبيان، وأتى سعيد بن عياذ بن الجلندي الأزدي بعمان، فقيل لسعيد: غنه رجل فاتك فاحذره، فلما جاء البطيخ بعث إليه بنصف بطيخة مسمومة وقال: هذا أول شيء جاء من البطيخ وقد أكلت نصف بطيخة وبعثت بنصفها، فأكلها عبيد الله فأحسن بالشر فقال: أردت أن أقتله فقتلني.
وحمل رأس ابن الجارود وثمانية عشر رأساً من وجوه أصحابه إلى المهلب فنصبت ليراها الخوارج وييأسوا من الاختلاف.
وحبس الحجاج عبيد بن كعب ومحمد بن عمير حيث قالا للحجاج: تأتينا لنمنعك. وحبس الغضبان بن القبعثري وقال له: أنت القائل تعش بالجدي قبل أن يتغدى بك؟ فقال: ما نفعت من قيلتي له ولا ضررت من قيلتي فيك. فكتب عبد الملك إلى الحجاج بإطلاقه.
وقتل مع ابن الجارود عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري، فقال الحجاج: ألا أرى أنساً يعين علي! فلما دخل البصرة أخذ ماله، فحين دخل عليه أنس قال: لا مرحباً ولا أهلاً بك يا ابن الخبيثة! شيخ ضلالة جوال في الفتن مرة مع أبي تراب ومرة مع ابن الزبير ومرة مع ابن الجارود أما والله لأجردنك جرد القضيب، ولأعصبنك عصب السلمة، ولأقلعنك قلع الصمغة! فقال أنس: من يعني الأمير؟ قال: إياك أعني، أصم الله صداك! فرجع أنس فكتب إلى عبد الملك كتباً يشكو فيه الحجاج وما صنع به. فكتب عبد الملك إلى الحجاج: أما بعد يا ابن أم الحجاج فإنك عبد طمت بك الأمور فعلوت فيها حتى عدوت طورك وجاوزت قدرك، يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب لأغمرنك غمزة كبعض غمزات الليوث الثعالب، ولأخبطنك خبطةً تود لها أنك رجعت في مخرجك من بطن أمك، أما تذكر حال آبائك في الطائف حيث كانوا ينقلون الحجارة على ظهورهم ويحتفرون الآبار بأيديهم في أوديتهم ومياههم؟ أنسيت حال آبائك في اللؤم والدناءة في المروة والخلق؟ وقد بلغ أمير المؤمنين الذي كان منك إلى أنس بن مالك جرأة وإقداماً، وأظنك أردت أن تسبر ما عند أمير المؤمنين في أمره فتعلم إنكاره ذلك وإغضاءه عنك، فإن سوغك ما كان منك مضيت عليه قدماً، فعليك لعنة الله من عند أخفش العينين أصك الرجلين ممسوح الجاعرتين! ولولا أن أمير المؤمنين يظن أن الكاتب أكثر في الكتابة عن الشيخ إلى أمير المؤمنين فيك لأرسل من يسحبك ظهراً لبطن حتى يأتي بك أنساً فيحكم فيك، فأكرم أنساً وأهل بيته واعرف له حقه وخدمته رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تقصرن في شيء من حوائجه ولا يبلغن أمير المؤمنين عنك خلاف ما تقدم فيه إليك من أمر أنس وبره وإكرامه فيبعث إليك من يضرب ظهرك ويهتك سترك ويشمت بك عدوك، والقه في منزله متنصلاً إليه، وليكتب إلى أمير المؤمنين برضاه عنك إن شاء الله، والسلام.
وبعث بالكتاب مع إسماعيل بن عبد الله مولى بني مخزوم، فأتى إسماعيل أنساً بكتاب أمير المؤمنين إليه فقرأه، وأتى الحجاج بالكتاب إليه فجعل يقرأه ووجهه يتغير وجبينه يرشح عرقاً ويقول: يغفر الله لأمير المؤمنين. ثم اجتمع بأنس فرحب به الحجاج واعتذر إليه وقال: أردت أن يعلم أهل العراق إذ كان من ابنك ما كان وإذ بلغت منك ما بلغت أني إليهم بالعقوبة أسع.
فقال أنس: ما شكوت حتى بلغ مني الجهد وحتى زعمت أنا الأشرار وقد سمانا الله الأنصار، وزعمت أنا أهل النفاق ونحن الذين تبوأوا الدار والإيمان، وسيحكم الله بيننا وبينك فهو أقدر على التغيير، لا يشبه الحق عنده الباطل ولا الصدق الكذب، وزعمت أنك اتخذتني ذريعةً وسلماً إلى مساءة أهل العراق باستحلال ما حرم الله عليك مني، ولم يكن لي عليك قوة فوكلتك إلى الله ثم إلى أمير المؤمنين فحفظ من حقي ما لم تحفظ، فوالله لو أن النصارى على كفرهم رأوا رجلاً خدم عيسى بن مريم يوماً واحداً لعرفوا من حقه ما لم تعرف أنت من حقي، وقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشر سنين. وبعد فإن رأينا خيراً حمدنا الله عليه وأثنينا، وإن رأينا غي ذلك صبرنا، والله المستعان. ورد عليه الحجاج ما كان أخذ منه.

.ذكر شير زنجي والزنج معه:

اجتمع الزنج بفرات البصرة في آخر أيام مصعب بن الزبير، ولم يكونوا بالكثير، فأفسدوا وتناولوا الثمار، وولي خالد بن عبيد الله بن خالد البصرة وقد كثروا، فشكا الناس إليه ما نالهم منهم، فجمع لهم جيشاً، فلما بلغهم ذلك تفرقوا وأخذ بعضهم فقتلهم وصلبهم.
فلما كان من أمر ابن الجارود ما ذكرنا خرج الزنج أيضاً فاجتمع منهم خلق كثير بالفرات وجعلوا عليهم رجلاً اسمه رباح، ويلقب شير زنجي، يعني أسد الزنج، فأفسدوا، فلما فرغ الحجاج من ابن الجارود أمر زياد بن عمرو، وهو على شرطة البصرة، أن يرسل إليهم جيشاً يقاتلهم، ففعل وسير إليهم جيشاً عليه ابنه حفص بن زياد فقاتلهم فقتلوه وهزموا أصحابه، ثم أرسل إليهم جيشاً آخر فهزم الزنج وقتلهم واستقامت البصرة.

.ذكر إجلاء الخوارج عن رامهر مز وقتل ابن مخنف:

لما أتى كتاب الحجاج إلى المهلب وابن مخنف يأمرهما بمناهضة الخوارج، زحفوا إليهم وقاتلوهم شيئاً من قتال، فانهزمت الخوارج كأنهم على حامية، ولم يكن منه قتال، وسار الخوارج حتى نزلوا كازرون، وسار المهلب وابن مخنف حتى نزلوا بهم، وخندق المهلب على نفسه وقال لابن مخنف: إن رأيت أن تخندق عليك فافعل. فقال أصحابه: نحن خندقنا سيوفنا.
فأتى الخوارج المهلب ليبيتوه فوجدوه قد تحرز، فمالوا نحو ابن مخنف فوجدوه لم يخندق فقاتلوه فانهزم عنه أصحابه، فنزل فقاتل في أناس من أصحابه فقتل وقتلوا حوله كلهم، فقال شاعرهم:
لمن العسكر المكلل بالصر ** عى فهم بين ميتٍ وقتيل

فتراهم تسفي الرياح عليهم ** حاصب الرمل بعد جر الذيول

هذا قول أهل البصرة.
فأما أهل الكوفة فإنهم ذكروا أنه لما وصل كتاب الحجاج بمناهضة الخوارج ناهضهم المهلب وعبد الرحمن فاقتتلوا قتالاً شديداً ومالت الخوارج إلى المهلب فاضطروه إلى عسكره، فأرسل إلى عبد الرحمن يستمده، فأمده عبد الرحمن بالخيل والرجال، وكان ذلك بعد الظهر لعشر بقين من رمضان.
فلما كان بعد العصر ورأت الخوارج ما يجيء من عسكر عبد الرحمن من الرجال، ظنوا أنه قد خف أصحابه، فجعلوا بإزاء المهلب من يشغله وانصرفوا بجندهم إلى عبد الرحمن، فلما رآهم قد قصدوه نزل ونزل معه القراء، منهم: أبو الأحوص، صاحب ابن مسعود، وخزيمة بن نصر أبو نصر بن خزيمة العبسي، الذي قتل مع زيد بن علي وصلب معه بالكوفة، ونزل معه من قومه أحد وسبعون رجلاً، وحملت عليهم الخوارج فقاتلهم قتالاً شديداً وانكشف الناس عنه وبقي في عصابة من أهل الصبر ثبتوا معه، وكان ابنه جعفر بن عبد الرحمن فيمن بعثه إلى المهلب، فنادى في الناس ليتبعوه إلى أبيه، فلم يتبعه إلا ناس قليل، فجاء حتى دنا من أبيه، فحالت الخوارج بينهما، فقاتل حتى جرح. وقاتل عبد الرحمن ومن معه على تل مشرف حتى ذهب نحو من ثلثي الليل، ثم قتل في تلك العصابة، فلما أصبحوا جاء المهلب فدفنه فصلى عليه وكتب بذلك إلى الحجاج، فكتب الحجاج إلى عبد الملك بذلك، فترحم عليه وذم أهل الكوفة.
وبعث الحجاج إلى عسكر عبد الرحمن عتاب بن ورقاء وأمره أن يسمع للمهلب، فساءه ذلك ولم يجد بداً من طاعته، فجاء إلى العسكر وقاتل الخوارج وأمره إلى المهلب وهو يقضي أموره ولا يكاد يستشير المهلب. فوضع عليه المهلب رجالاً اصطنعهم وأغراهم به، منهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة. وجرى بين عتاب والمهلب ذات يوم كلام أغلظ كل منهما لصاحبه، ورفع المهلب القضيب على عتاب، فوثب إليه ابنه المغيرة بن المهلب فقبض القضيب وقال: أصلح الله الأمير! شيخ من أشياخ العرب وشريف من أشرافهم، إن سمعت منه بعض ما تكره فاحتمله له فإنه لذلك أهل. ففعل، فافترقا، فأرسل عتاب إلى الحجاج يشكو المهلب ويسأله أن يأمره بالعود إليه، فوافق ذلك حاجةً من الحجاج إليه فيما لقي أشراف الكفة من شبيب، فاستقدمه وأمره أن يترك ذلك الجيش مع المهلب، فجعل المهلب عليهم ابنه حبيباً.
وقال سراقة بن مرداس البارقي يرثي عبد الرمن بن مخنف:
ثوى سيد الأزدين أزد شنوءةٍ ** وأزاد عمان رهن رمسٍ بكازر

وضارب حتى مات أكرم ميتةٍ ** بأبيض صافٍ كالعقيقة باتر

وصرع حول التل تحت لوائه ** كرام المساعي من كرام المعاشر

قضى نحبه يوم اللقاء ابن مخنفٍ ** وأدبر عنه كل ألوث داثر

أمد ولم يمدد فراح مشمراً ** إلى الله لم يذهب بأثواب غادر

وأقام المهلب بسابور يقاتلهم نحواً من سنة.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة تحرك صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس بن زيد مناة من تميم، وكان يرى رأي الصفرية، وهو أول من خرج فيهم، وحج هذه السنة ومعه شبيب بن يزيد وسويد والبطين وأشباههم؛ وحج في هذه السنة عبد الملك بن مروان، فهم شبيب أن يفتك به فبلغه ذلك من خبرهم، فكتب إلى الحجاج بن يوسف بعد انصرافه يأمره بطلبهم، وكان شيخاً صالحاً يأتي الكوفة فيقيم بها الشهر ونحوه فيلقى أصحابه ويعد ما يحتاج إليه، فلما طلبه الحجاج نبت به الكوفة فتركها.
وفيها غزا محمد بن مروان الصائفة عند خروج الروم إلى الغنيق من ناحية مرعش.
وحج بالناس عبد الملك فخطب الناس بالمدينة فقال بعد حمد الله والثناء عليه: أما بعد فإني لست بالخليفة المستضعف، يعني عثمان، ولا بالخليفة المداهن، يعني معاوية، ولا بالخليفة المأفون، يعني يزيد، ألا وإني لا أدواي هذه الأمة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم، وإنكم تحفظوننا أعمال المهاجرين الأولين ولا تعلمون مثل أعمالهم، وإنكم تأمروننا بتقوى الله وتنسون ذلك من أنفسكم، والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه. ثم نزل.
وفي هذه السنة مات العرباض بن سارية السلمي، وهو من أهل الصفة، وقيل: بل مات بالشام في فتنة ابن الزبير. وفيها توفي الأسود بن يزيد النخعي، وهو ابن أخي علقمة بن قيس. ثم دخلت:

.سنة ست وسبعين:

.ذكر خروج صالح بن مسرح:

كان صالح بن مسرح التميمي رجلاً ناسكاً مصفر الوجه عبادة، وكان بداراً وأرض الموصل والجزيرة، وله أصحاب يقرأ بهم القرآن والفقه ويقص عليهم، فدعاهم إلى الخروج وإنكار الظلم وجهاد المخالفين لهم، فأجابوه، وحثهم عليهم، فراسل أصحابه بذلك وقلاقوا به، فبينا هم في ذلك إذ قدم عليه كتاب شبيب يقول له: غنك كنت تريد الخروج فإن كان ذلك من شأنك اليوم فأنت شيخ المسلمين ولن نعدل بك أحداً، وإن أردت تأخير ذلك اليوم أعلمني فإن الآجال غادية ورائحة ولا آمن أن تختر مني المنية ولم أجاهد الظالمين.
فكتب إليه صالح: إنه لم يمنعني من الخروج إلا انتظارك، فأقبل إلينا فإنك ممن لا يستغنى عن رأيه ولا تقضى دونه الأمور. فلما قرأ شبيب كتابه دعا نفراً من أصحابه، منهم: أخوه مصاد بن يزيد بن نعيم الشيباني والمحلل بن وائل اليشكري وغيرهما، وخرج بهم حتى قدم على صالح بدارا، فلما لقيه قال: اخرج بنا رحمك الله، فوالله ما تزداد السنة إلا دروساً ولا يزداد المجرمون إلا طغياناً.
فبث صالح رسله وواعد أصحابه الخروج إلى ذلك هلال صفر سنة ست وسبعين فاجتمعوا عنده تلك الليلة، فسأله بعضهم عن القتال قبل الدعاء أم بعده؟ فقال: بل ندعوهم فإنه أقطع لحجتهم. فقال له: كيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به، ما تقول في دمائهم وأموالهم؟ فقال لهم: إن قتلنا وغنمنا فلنا وإن عفونا فموسع علينا.
ثم وعظ أصحابه وأمرهم بأمره وقال لهم: عن أكثركم رجالة وهذه دواب لمحمد بن مروان فابدأوا بها فاحملوا عليها رجالكم وتقورابها على عدوكم.
فخرجوا تلك الليلة فأخذوا الدواب فاحتملوا عليها وأقاموا بأرض دارا ثلاث عشرة ليلة.
وتحصن منهم أهلها وأهل نصيبين وسنجار، وكان خروجه وهو في مائة وعشرين، وقيل وعشرة.
وبلغ محمداً مخرجهم، وهو أمير الجزيرة، فأرسل عدي الكندي إليهم في ألف فارس. فسار من حران فنزل دوغان، وكانوا أول جيش سار إلى صالح، وسار عدي وكأنه يساق إلى الموت. وأرسل إلى صالح: إن كنت ترى رأينا خرجنا عنك، وإلا فنرى رأينا. فأرسل إليه عدي: إني لا أرى رأيك ولكني أكره قتالك وقتال غيك. فقال صالح لأصحابه: اركبوا، فركبوا، وحبس الرسول عنده ومضى بأصحابه فأتى عدياً وهو يصلي الضحى، فلم يشعروا إلا والخيل طالعة عليهم، فلما رأوها تنادوا، وجعل صالح شبيباً في ميمنته، وسويد بن سليم في ميسرته، ووقف في القلب، فأتاهم وهم على غير تعبية وبعضهم يجول في بعض، فحمل عليهم شبيب وسويد فانهزموا، وأتي عدي بن عدي بدابته فركبها وانهزم، وجاء صالح ونزل في معسكره وأخذوا ما فيه.
ودخل أصحاب عدي على محمد بن مروان، فغضب على عدي ثم دعا خالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة العامري فبعثه في ألف وخمسمائة، وقال: اخرجا إلى هذه المارقة وأغذا السير فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه. فخرجا متساندين يسألان عن صالح، فقيل لهما: إنه نحو آمد، فقصداه، فوجه صالح شبيباً في شطر من أصحابه إلى الحارث بن جعونة، وتوجه هو نحو خالد، فاقتتلوا من وقت العصر أشد قتال، فلم تثبت خيل محمد لخيل صالح، فلما رأى أميراهم ذلك ترجلا وترجل معهما أكثر أصحابهما، فلم يقدر أصحاب صالح حينئذٍ عليهم، وكانوا إذا حملوا استقبلتهم الرجالة بالرماح ورماهم الرماة بالنبل وطاردهم خيالتهم، فقاتلوهم إلى المساء، فكثرت الجراح في الفريقين، وقتل من أصحاب صالح نحو ثلاثين رجلاً، ومن أصحاب محمد أكثر من سبعين.
فلما أمسوا تراجعوا، فاستشار صالح أصحابه، فقال شبيب: إن القوم قد اعتصموا بخندقهم فلا أرى أن نقيم عليهم. فقال صالح: وأنا أرى ذلك. فخرجوا من ليلتهم سائرين فقطعوا أرض الجزيرة وأرض الموصل وانتهوا إلى الدسكرة، وخرج صالح بن مسرح حتى أتى قرية يقال لها مدبج على تخوم ما بين الموصل وجوخى، وصالح في تسعين رجلاً، فلقيهم الحارث لثلاث عشرة بقين من جمادى، فاقتتلوا فانهزم سويد بن سليم في ميسرة صالح، وثبت صالح، فقتل وقاتل شبيب حتى صرع عن فرسه، فحمل عليهم راجلاً، فانكشفوا عنه، فجاء إلى موقف صالح فأصابه قتيلاً، فنادى: إلي يا معشر المسلمين، فلاذوا به. فقال لأصحابه: ليجعل كل واحد منكم ظهره إلى ظهر صاحبه وليطاعن عدوه حتى يدخل هذا الحصين ونرى رأينا، ففعلوا ذلك ودخلوا الحصين جميعهم، وهم سبعون رجلاً، وأحاط بهم الحارث وأحرق عليهم الباب، وقال: إنهم لا يقدرون على الخروج منه.
مسرح بضم الميم، وفتح السين المهملة، وتشديد الراء وكسرها، وبالحاء المهملة. وجعونة بفتح الجيم، وسكون العين المهملة، وفتح الواو، وآخره نون.